أمنية طلعت
مسرحية “زيارة المفتش” أو An inspector calls “المفتش يتصل” التي كتبها المؤلف المسرحي والإذاعي البريطاني الشهير جي بي بريستلي عام 1945 وهو عام انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية دخول العالم في نظام اقتصادي وسياسي جديد. شهدت هذه المسرحية العديد من التأويلات الإخراجية على الخشبة العالمية وفي مصر أيضاً، ومؤخراً برع طلاب معهد الفنون المسرحية في تقديم نسخة شيقة وذات رؤية رشيقة للمسرحية على خشبة المعهد، وقد تم اختيارها للدخول في التسابق على جوائز المهرجان القومي للمسرح في دورته السادسة عشرة الحالية.
حملت نسخة المعهد العالي للفنون المسرحية اسم “الزائر” من إخراج إبراهيم أشرف وقد حصلت على مركز أول كأفضل عرض مسرحي في الدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان المسرح العالمي بأكاديمية الفنون، وهذه المسرحية تُعد من أشهر كلاسيكيات المسرح الإنجليزي في النصف الأول من القرن العشرين، حيث ساهم المخرج الإنجليزي ستيفن دالدري في تعزيز نجاح المسرحية عندما قدمها على المسرح الوطني الإنجليزي عام 1992 وقام بجولات لعرضها في جميع أنجاء المملكة المتحدة حتى عام 2012.
تدور أحداث المسرحية في نسختها الأصلية في ثلاثة فصول عام 1912 حيث عائلة بيرلنج التي تنتمي إلى الطبقة البرجوازية واستطاعت أن تصعد في السلم الاجتماعي من خلال تحقيق مكاسب مالية وتعيش في منزل راقٍ بمدينة بروملي الخيالية والتي يتم تصويرها باعتبارها مدينة صناعية تقع في شمال ميدلاندز. يزور الأسرة رجل يطلق على نفسه اسم المفتش “جول” الذي يحقق مع الأسرة حول انتحار امرأة شابة من الطبقة العاملة.
إن مسرحية “زيارة المفتش” تُعد من المرجعيات المسرحية الكلاسيكية التي تقدم نقداً لاذعاً لنفاق وازدواجية المجتمع الإنجليزي الفيكتوري والإدواردي أو دعونا نلقبه بالمجتمع البرجوازي الذي يجتهد للصعود في السلم الاجتماعي بهدف الانتماء إلى الطبقة الأرستقراطية او طبقة النبلاء، وكتعبير عن مبادئ بريستلي السياسية الاشتراكية.
السؤال هنا “لماذا يقدم طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية مسرحية الزائر الآن؟” لماذا يتم اختيارها دوناً عن غيرها من الأعمال الكلاسيكية الكثيرة والشهيرة التي تساعد على إبراز مهارات الطلاب الفنية، هل جاء الأمر مصادفةً أم أنه مقصود؟.
يمكنني أن أتمادى في خيالي وأقرر أن الطلاب الذين ينتمون بالتأكيد إلى الطبقة المتوسطة المصرية المتآكلة، يتنامى داخلهم غضب مكتوم تجاه النفاق الاجتماعي الكبير الذي نعيشه في مصر الآن، مع صعود نماذج اجتماعية متدنية إلى واجهة المجتمع وفرض قوانينها اللاأخلاقية على مفردات الحياة التي نعيشها يومياً، فقد تكون تلك المسرحية صرخة راقية في وجه المجتمع الذي أصبح يُقاس بكل ما هو مادي يلمع من وراء شاشات الموبايلات الذكية، في حين ينعدم وجود منتج ثقافي علمي معرفي حقيقي يساهم في تطور المجتمع بأي شكل من الأشكال، مع غياب أي توجيه معرفي فوقي حقيقي وترك الشارع ليأكل نفسه بنفسه.
تُقدم نسخة المعهد العالي للفنون المسرحي في فصل واحد حيث تبدأ مع مشهد لعائلة تستعد لاستقبال خطيب ابنتهم والذي ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ونفهم مدى تشبث الأب والأم بهذه الزيجة التي سوف تساعدهم على الصعود في السلم الاجتماعي، بينما نفهم أن ابنهم شاب مستهتر مخمور أغلب الوقت ولا يشعر بالفخر لانتمائه لعائلته ويراهم منافقين ما يجعله يسخر منهم في كل حواراته معهم. عندما يصل الخطيب الأرستقراطي ويبدأون في تناول الطعام يزورهم مفتش شرطة ليحقق في البداية مع الأب في انتحار فتاة تُعدى إيفا سميث، وبرغم أننا نبدأ بالتعرف على ما ارتكبه الأب في حق تلك الفتاة ما ساهم في انتحارها، تبدأ كرة الثلج في التدحرج لنكتشف تدريجياً أن جميع أفراد الأسرة ساهموا بطريقة أو بأخرى في انتحار الفتاة، فالأب والإبنة والزوجة والابن وحتى الخطيب لعبوا أدواراً مختلفة ساهمت بشكل أو بآخر في وصول الفتاة لليأس وقرار الانتحار، ويهدف التسلسل الدرامي الذي اعتمد على التحقيق مع أفراد العائلة إلى توجيه الاتهام بشكل غير مباشر للطبقة البرجوازية العليا المتسلقة والطبقة الأرستقراطية التي تفعل أي شيء للدفاع عن مكتسباتها، بأنهما يقفان وراء تآكل المجتمع وانهيار أخلاقياته بحرمان الطبقات الدنيا من سبل العيش الكريم.
هل هناك عودة إلى الأفكار الاشتراكية بين الشباب؟ أم أنها صرخة لا يدرون هم أنفسهم أنهم يوجهونها إلى المجتمع مع تفاقم سوء الوضع الاقتصادي وظهور تكتلات منتفعة من هذا الانهيار وضياع الفرص لكل من يعيش خارج هذه التكتلات، هذا الوضع الذي نراه في كل شرائح المجتمع وطبقاته وكذلك داخل المهن والمجالات المختلفة في الحياة بمصر. ربما أحب أن يكون اختيار النص له مرجعية فكرية داخل عقول الشباب الذين أعادوا تقديمه على خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية، وهم في الحقيقة قدموا نسخة رشيقة ذات وتيرة سريعة متصاعدة استطاعت أن تأخذ بلب المشاهدين في مشهد شديد التفاعل، حيث تمكن المخرج من ضبط إيقاع الخشبة واستطاع مهندس الديكور سامح محمد من تقسيم الخشبة بشكل يعبر عن فخامة منزل عائلة بيرلنج وفي نفس الوقت يمكننا التنقل بالأحداث من المنزل إلى الحانة إلى الجمعية الخيرية .. إلخ، ساهمت الإضاءة لياسمين هاني أيضاً في تجسيد الأماكن التي تنتقل بينها الأحداث من المصنع إلى منزل الفتاة إلى منزل خطيب ابنة بيرلنج … إلخ.
مسرحية “الزائر” لشباب المعهد العالي للفنون المسرحية تؤكد على فكرة أن الشباب غالباً ما يكسبون الرهان على جودة العمل المسرحي مقارنة بالمحترفين، وهذا بعيداً عن الجوائز التي غالباً ما يحكمها توازنات وأهواء لا علاقة لها غالباً بجودة واكتمال عناصر العمل الفني، حيث شهدت خشبة المعهد انضباطاً رائعاً ساهم فيه الممثلون أمير عبد الواحد وإياد أمين ويارا المليجي ونورا مهدي ومونيكا هاني وعمر صلاح وفادي ثروت.