في ظل ارتفاع درجة الحرارة في هذه الأيام من فصل الصيف، يحتاج الإنسان لتناول المزيد من المياه بشكل دوري ومستمر، لتعويض الفاقد في جسده، وعدم إصابته بضربة شمس قد تؤدي في أغلب الأحيان إلى حالة الوفاة.
وإذا كان الإنسان يستطيع تدبير احتياجاته من الماء بشكل ما، وقد يعجز في ظروف أخرى، ن فما بالنا بالطائر أو الحيوان الضعيف، الذي قد يعجز عن تدبير احتياجاته، مع صغاره عن تدبير هذا الماء الذي جعله الله تعالى سرا لكل شيئ حي.
فضل سقي الماء
و سقي الماء، وإرواء العطشان من بني الإنسان، وكذا الحيوان، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع: “انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ”، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. رواه مسلم.
فتبريد الأكباد، وإطفاء حرارة الظمآن، من أعظم الأبواب التي تقود إلى الجنة، ومن أسباب تكفير الآثام، وهو باب عظيم لإذهاب الأسقام، وبه تكون الصدقة جارية عن النفس والْوَالِدَيْنِ والْوِلْدَان.
هذا فضل سقي الماء، وتبريد الأكباد، بل إن أعظم ما ذكره الله في وصف الجنة إجراءُ الأنهار التي منها السِّقَاء والتلذذ، والشرب والإطعام، (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى) [محمد:15].
بل إن الله -عز وجل- عذَّب أهل النار بحرمانهم من الماء، (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: “وفي هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال”.
وكلنا نعرف قصة الرجل الذي كان في الصحراء قد اشتد به عطشه، وتقرَّحت منه كبده، وبلغ به الظمأُ مبلغه، وهو يسير يبحث عن الماء، فإذا هو ببئرٍ في الصحراء، فنزل فيها وشرب حتى ارتوى، فذاق العُذُوْبَة، وتلذذ بالماء، مع أن الماء لا طعم له على اللسان، إنما طعمه ولذته ببرودته على الأكباد.
وعندما أذهب الله ظمأه، وأشفى غليله، خرج من البئر وهو يتذوق طعم الحياة، وكأنه لن يموت، فخرج وهو ينظر للحياة بنظرة أخرى قبل نزوله للبئر.
وعندما كان يُقلب طرفه في الفضاء إذ بكلبٍ يَلْهَثُ مِنَ شدة الْعَطَشِ، يأكل التراب بحثًا عن الماء، فَتَأمَّل هذا الرجل في هذا المشهد، وقال: “لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي”، مع أن الكلب دابة نجسة الريق، لكنها خلق من خلق الله -عز وجل- ذات كبد رطبة، فرجع إلى البئر، ولكنه لم يجد ما يجعل الماء فيه، فهداه الله لِخُفِّه فملأه، وجاء إلى الكلب ثُمَّ سَقَاه، فشرب الكلب وهو يسابق نفسه.
وفي هذا المشهد الذي تجلت فيه معاني الرحمة في أسمى صورها، فيكون الجزاء من جنس العمل، هنا تجلت رحمة الرحيم الرحمن، اللطيف الجليل، الذي يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فشكر -سبحانه- صنيع هذا الرجل، فرضي عنه، فغفر له ورحمه.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: “بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: “فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ” متفق عليه.
بل الأعجب من هذا ما جاء في الصحيحين من أن امرأةً زانية سقت كلبًا فغفر الله لها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: “بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ -أي: يدور حول بئر- قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أي: خُفّها- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ”. فيا لله! كم من نفحات لله لا يعلمها إلا هو جعلها للرحماء المخلصين من عباده.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: “أَيّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ” رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
واعلم أن من أعظم الصدقات سقي الماء وإجراءه، جاء سعد بن عبادة -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: “نعم”، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: “سَقْيُ الْمَاء” رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وحسنه الألباني.
فوائد سقي الماء
ومن فوائد سقي الماء، أَنَّه سببٌ لعلاج الأمراض، وشفاء الأسقام، بإذنه -سبحانه-، يقول ابن شقيق: “سمعت ابن المبارك وسأله رجلٌ عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله” أخرجه البيهقي في الشعب. فقد كان سقي الماء من هذا الرجل سببًا لشفائه بعد إذن الله -سبحانه وتعالى-.
وعلى المسلم أن يحذر أشد الحذر من البخل بالماء، أو منعه عمن يحتاجه، أو حبس فضل الماء عن زرع غيره، فإن فعل فإنه إذن من الآثمين، الموعودين بغضب رب العالمين، والمطرودين من رحمته التي وسعت كل شيء، يقول-صلى الله عليه وسلم-: “ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ -وذكر منهم- وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ” رواه البخاري.
وعند البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ -وذكر منهم- وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ” متفق عليه.
كيف تنال ثواب سقي الماء؟
أولاً: السعي في حفر الآبار في الأماكن التي يحتاج إليها الناس
ثانياً: توفير المضخات لتنقية المياه لتكون صالحة للشرب .
ثالثاً: وضع الماء في المساجد، أو الأسواق، أو الطرق، وتعاهده، بل وعند البيوتز
رابعاً: حمل الماء في السيارة وتوزيعه على من يحتاجه.
خامساً: وضع البرادات في الأماكن العامة وتعاهدها بالماء الصالح.
سادساً: استغلال تجمعات الناس سواء في الحج أو العمرة، أو في المقابر أثناء دفن الأموات، أو في اللقاءات التي يحتاجون فيها إلى الماء فيسابق للسقاية.
سابعاً: وضع ماء في إناء للهوام والدواب، وللطير والكلاب، “ففِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ”.