أمنية طلعت
بدأ مسرح الهناجر فعالياته بعرض مسرحية “قررررب قرررب”، والتي تدخل في مضمار التسابق على جوائز المهرجان القومي للمسرح في دورته السادسة عشرة، وهي نتاج ورشة أعدها وأشرف عليها مدير مسرح الهناجر المخرج والممثل الكبير شادي سرور، والذي عمد في هذه التجربة إلى وضع الشباب والشابات الموهوبات تحت ضغط اتقان أداءات حركية مختلفة.
ويتدرب فريق العمل على الأداء التمثيلي والرقص والغناء والعزف الموسيقي إضافة إلى بعض من فنون ألعاب السيرك.
أمضى سرور الكثير من الوقت في البحث عن النص الذي يحلم به كي يقدم من خلاله فكرة الحياة داخل السيرك بكل ما تعكسه من أحلام وآلام ومشاكل وأزمات وترابط وإبداع وعشق للفن مهما حدث، حتى استطاع أن يصل إلى الصيغة التي يحلم بها بقلم السيناريست والشاعر أحمد نبيل، الذي كتب المسرحية بصيغة أقرب للمشاهد السينمائية السريعة والمتقطعة، وهو ما استطاع سرور ترجمته على الخشبة باحترافية أسهمت في أن لا يشعر المشاهد بالملل رغم زمن المسرحية الطويل.
ويسرد شادي سرور تجربته مع هذه الورشة التي أخرجت “قرررب قرررب”، قائلاً أنه وفريق العمل عايشوا العاملين في السيرك لمدة ثلاثة أشهر كاملة حتى يتدربوا على أداء بعض الألعاب، ويمتثلوا لأسلوب حياتهم وتعاملاتهم اليومية، وهو ما يستشعره المشاهد منذ اللحظة الأولى أثناء مشاهدة المسرحية، فالجو العام يوحي بقوة أن من نشاهدهم على الخشبة هم مجموعة من فناني السيرك فعلاً وليس شباباً من شباب الممثلين المشاركين في ورشة الهناجر.
وكتب أحمد نبيل النص بذكاء شديد حيث خرجت الشرارة الأولى من شادي سرور ورغبته في تقديم مسرحية تدور حول عالم السيرك، ربما لما رآه من احتواء عالم السيرك على كافة العناصر الفنية التي يحتاج الممثل إلى التدرب عليها كي يكون فناناً شاملاً، ولكن يعود لنبيل الفضل في قدرته على وضع يده على العنصر الأكثر أهمية في عالم السيرك في مصر، ألا وهي أن أغلب العاملين في السيرك المصري ينتمون لأصل واحد أو عائلة واحدة كونتها مريم المصرية وابنها وزوجها، هذه العائلة التي تنتمي إلى القرن التاسع عشر والتي استطاعت أن تؤسس للسيرك المصري بعد أن كان السيرك الأوروبي والتركي هو الذي يحتكر الساحة المصرية.
من خلال عدد من الحكايات والعلاقات الشائكة بين أفراد العائلة الواحدة، ندخل في قلب الحكاية التي تقوم على قيمتين أساسيتين وهما، أن أي خلافات عائلية مهما كانت لن تفرق بين أفراد العائلة، وأن أي صراعات بين أفراد العائلة تنتحي جانباً على حلبة العرض والتي تُعرف باسم “المنيش” في عالم السيرك.
يلعب أحمد نبيل أيضاً على عدد من المشاعر النفسية التي تُستخدم على المنيش لإثارة المشاهدين وجذب انتباههم، كأن يمثل مدرب الأسود أن الأسد يهاجمه حتى يعيد تركيز المشاهدين مع العرض ورفع الأدرينالين في عروقهم، وكيف أن هذا الأداء يمكن سحبه على الواقع أو في الحياة اليومية حيث يخدع أحد شخوص العمل أسرته ويوهمهم بأنه فقد بصره كي يحصل على حبهم واهتمامهم وعطفهم وهي المعروفة في عالم السير بـ “الكاسكاتا”. الصراع بين الاستسلام للروتين وتنفيذ أحلامنا دون حسابات، والفوارق بين الطبقات أو لصق الأهمية على نوعية معينة من المهن ونفيها عن غيرها. العديد من الصراعات النفسية والدرامية التي ينسجها المؤلف بين شخصيات العمل إضافة إلى إثارة بعض القضايا مثل استخدام الحيوانات في السير بعيداً عن حياتهم الطبيعية وهو ما بدأ السيرك الحديث التخلي عنه باستخدام الهولوجرام لتجسيد الحيوانات بدلاً من حبسها بالفعل في ظروف منافية لطبيعتها.
استطاع شادي سرور أن يتحكم بقوة في تحريك 25 ممثلاً وممثلة على خشبة المسرح، إضافة إلى إبداعه في ترجمة النص إلى مشاهد توحي بالروح السينمائية في تشكيل المشاهد بالموازاة لبعضها البعض عن طريق تقنيات الإظلام والإضاءة، وكذلك باستخدام تشكيلات الديكور لمهندس الديكور المتجدد دائماً فادي فوكيه الذي صنع قطعاً مرنة، يمكن تحريكها بسهولة وإعادة تشكيلها لتنقل المشاهدين من غرفة لأخرى ومن ساحة لأخرى.
وكذلك من حلبة العرض إلى الكواليس دون أن يشعر المشاهد بأي تأخير أو خطأ على الخشبة، ودون استخدام لقطع ضخمة نقل لنا روح السيرك كاملةً دون نقصان. كذلك استطاع الفنانين الصاعدين، والذين شاركوا في هذه الورشة وعرضوا عدداً كبيراً من ليالي العرض حققت إيرادات ضخمة دون أن يحملوا المسرح أي تكاليف إنتاجية زائدة أو حتى أجور ممثلين، وهو ما يُلقي بالكثير من العبء على كاهل شادي سرور الذي يعمل طوال الوقت على تحضير بدائل للمثلين الذين تمنعهم ظروفهم من تكملة العرض، وهو ما أوحى له بأن يكون عرض “قرب قرب” نموذجاً لتدريب الممثل في ورشة الهناجر باستمرار ودون انقطاع ليخرج من عباءة العرض العديد من الأجيال الفنية المتنوعة.
يحتوي عرض “قرب قرب” على كافة عناصر الفرجة المسرحية التي تساعده على الاستمرار في جذب المزيد من المشاهدين، وبالتالي يمكننا القول إنه دجاجة تبيض ذهباً لإدارة مسرح الهناجر ووزارة الثقافة بشكل عام.