بقلم وزير الأوقاف
الحكيم هو الذي أحكم ويحكم الأمر كله، يقول سبحانه: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” (الأنعام: 18)، فالحكيمُ الحق هو الله، وكل شيء عنده بمقدار، حيث يقول سبحانه: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ” (الحجر: 21)، فالماء خـزائـنـه عند الله، والمال خزائـنـه عند الله، والعلم خزائـنه عند الله، وراحة البال خزائنها عند الله، فقد جاءت كلمة (شيء) في الآية الكريمة نكرة لتفيد العموم، فكل ما يخطر ببالك فخزائنه ومفاتيح خزائنه عند الله (عز وجل)، ويقول سبحانه: “وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ” (الحجر: 22)، ويقول تعالى: “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ” (المؤمنون: 18)، ويقول سبحانه: “وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ” (النور: 43)، فهو وحده القادر على أن يجعل الماء غيثًـا لمن يشاء وطوفـانًـا على من يشاء، فيرسله برحمته وحكمته، ويمسكه برحمته وحكمته، ويدبره بأمره، فالماء لو قلَّ لأصاب الناس الجدب والعطش، ولو كثر صار طوفانًا وأصابهم الغرق، فينزله (سبحانه وتعالى) بقدر وحساب كيف شـاء ومتى أراد، يقول الحق سبحانه: “أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ” (الواقعة: ٦٨ – ٧٠)، ويقول سبحانه: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ” (الملك: ٣٠).
ويقول سبحانه: “مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (فاطر:2)، يفتـح لهـذا بحكمة، ويمنع عن هذا بحكمـة، ويفتـح في وقت بحكمة، ويمسك في وقت آخر بحكمة، كما قال سبحانه: “لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ” (الشورى: 49 – 50)، كل ذلك لحكمة وبحكمة.
وإذا أردت أن تقف على جانب من الحكمـة العظيمة فيما يعده بعض الناس غريبًا، ومنه ما استغربه كليم الله موسى (عليه السلام) من العبد الصالح عندما خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، ثم جاء العبد الصالح ليبين له سر وحكمة ما كان، وذلك ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى: “أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” (الكهف: 79-82)، كل ذلك بحكمة الحكيم العليم الخبير، ثم يقول سبحانه لموسى (عليه السلام): “ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” (الكهف: 82).
– مع تأكيدنا على عدة أمور:
الأول: أن الأمر كله لله، بحكمته يعطي ما يشاء لمن يشاء متى يشاء، ويمنع ما يشاء عمن يشاء متى يشاء لحكمة يعلمها، لا رادَّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، ففوِّض الأمر لمن دبره، فلن ترى غير الذي قدَّره، وما قدَّره هو الحكمة، فعليك أن ترضى بما قسم الله لك، فالرضا بما قسم الله عين الإيمـان، يقـول سبحانـه وتعالى: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة: 216).
ولأنه هو الحكيم، قد يؤخر عنك شيئًا لحكمة، وقد يقدم لغيرك شيئًا لحكمة، فارضَ بما قسم الله لك، فهي حكمته وقسمته، وعطاؤه، يقول سبحانه: “هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (ص: 39).
الأمر الثاني: الحكمة منحة وِمنَّة من الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” (البقرة: 269)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ الله مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ الله حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا”.
الأمر الثالث: علينا أن ندرك أن للكون خالقًا حكيمًا، وربًّا عظيمًا منزهًا عن العبث، خلق الكون لحكمة، يقول سبحانه: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ” (المؤمنون: 115، 116)، ويقول سبحانه: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات: 56)، فلنُعمل عقولنا في كل تصرفاتنا، وننطلق من الحكمة التي خلقنا الله لها “إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” ليفتح لنا سبحانه من أبواب فضله بابًا واسعًا لعمارة الكون في تراحم وتكافل وتعاضد وتعايش، كما أراد الله.