أمنية طلعت
تنقسم مسرحية “مارا ساد” إلى عملين، قسم يخص شخصية مارا والآخر يخص شخصية ساد حيث يواجه كل منهما الآخر في نظرته للمجتمع. مسرحية “مارا ساد” من تأليف الكاتب الألماني بيتر فايس وقد نُشرت وعُرضت لأول مرة عام 1964. كان فايس ماركسياً وأحد دعاة مسرح القسوة الذي يهدف إلى إحداث صدمة لدى الجمهور لمواجهته بمعاناته الشديدة داخل المجتمع الحديث الذي أصابه الجنون.
كانت دهشتي كبيرة عندما علمت أن المخرج السكندري أشرف علي يشارك في المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السادسة عشرة بتأويل جديد لهذا النص العبثي شديد العنف الذي قدمه فايس منتقداً بحدة تطورات العصر الرأسمالي وأرخ له بداية من عصر الثورة الفرنسية عام 1987، ولأن فايس ذو مرجعية ماركسية واضحة كانت دهشتي كبيرة، فتقديم مثل هذا العرض يعد مؤشراً كبيراً على أن هامشاً من القدرة على التعبير قد انفتح أمام الفن في مصر، وكان التساؤل هو كيف سوف يعالج أشرف علي هذا النص على خشبة المسرح المصري عام 2023؟
في البداية يجب أن نعلم أن أحداث المسرحية تدور من عام 1801 إلى عام 1814 بعد قيام الثورة الفرنسية ببضع سنوات وتتعلق بمجموعة من النزلاء في مصح شارنتون التي سُجن فيها ماركيز دو ساد والثوري مارا، نشاهد اضطهاد واغتيال مارا كما يمثله نزلاء المصح، وليس هذا هو الذي يبوح بثورية النص ولكن انتماء فايس إلى المسرح البريختي الذي ساد في ذلك العصر والذي يعد من أهم سنوات الفن الثوري والرغبات التي تدفع الجميع من تغيير العالم وانتفاض الشباب على المدارس الفنية القديمة الجامدة.
إن مسرحية مارا ساد الذي برع فايس في كتابتها بطريقة تشرذم الحدث، حيث تحتاج إلى أن توزع نظراتك في كل الاتجاهات على المساحة المخصصة لتقديم العرض، والتي تبتعد عن الخشبة التقليدية لتخرج على مساحة يحددها المخرج إن كانت طولية أو عرضية، فمساحة العرض تنقسم بين مارا الثوري الفرنسي المريض الذي كان من أبرز قادة الثورة الفرنسية، وبين ماركيز دو ساد صاحب النظرة الفردية العدمية والتي نشأت من الحكم عليه بالسجن والتعذيب لأفكاره التي ظهرت شاذة لمجتمع الفضيلة الكنسي وعلاقته بالقصر التقليدي قبل الثورة. الاثنان خارجان على النظام القديم للتفكير والحكم، وكليهما خارجان على الكنيسة في اتحادها مع الملكية التي تحكم بالحديد والنار وتلتهم ثروات البلاد تاركة الشعب فقيراً معدماً.
المسرحية تدور حول اغتيال الفتاة الثورية شارلوت كورداي للثوري مارا الذي كان عضواً بارزاً في الثورة وكذلك كان من أشد وأكبر إرهابييها الذي دعا وأشرف على تنفيذ الكثير من الإعدامات باستخدام المقصلة لرؤوس النبلاء والحكام في دموية يذكرها التاريخ للثورة الفرنسية.
يذكر التاريخ أن اغتيال الثوري مارا لم يكن على أيدي أنصار الملكية ولكن على أيدي الثور أنفسهم في وقت انقلبت فيها الثورة على أبنائها، ولكننا في مسرحية “مارا ساد” لا نتعامل مع عمل تاريخي عادي، ولكن أمام عمل ذي أبعاد فلسفية عميقة تتجاوز الحدث التاريخي لتأخذ أساليب كتابة تجمع بين المسرح الملحمي والمسرح الموسيقي، إضافة إلى استناد الكاتب إلى الشاعر الفرنسي انطونان آرتو الذي يربط الجنون بالإبداع وذلك في الشق الخاص بماركيز دو ساد، ثم طرح الأسئلة الفلسفية حول جدوى الثورات ودور الأطر الفكرية السائدة فيها، وفي النهاية طرح السؤال الكبير “هل يمكن لأية ثورة أن تحقق نجاحاً في النهاية؟”، وهنا يأتي الإسقاط على ثورة 25 يناير عام 2011 في مصر، والتداعيات شديدة البؤس التي شهدتها البلاد من بعدها، وتأثير ذلك على القرارات السياسية والاقتصادية التي واجهناها و عشناها، لنعود لطرح السؤال حول جدوى قيام الثورة من الأساس.
أشرف علي يتجرأ ويقدم مدير الملجأ في زي عسكري يشرف بفوقية على أحداث المسرحية التي يقدمها نزلاء الملجأ، المدير العسكري الذي يحكم على النزلاء بجلسات الكهرباء وطُرق علاج عنيفة حتى يسيطر عليهم وعلى تصرفاتهم في التعامل مع أحداث الثورة وأفكار ماركيز دو ساد، الذي يسخر من ثورية مارا التي تقضي بالقتل والعنف والقسيس الذي يتحدث بلسان السلطة ويحتوي رغبات الجماهير ببيع الجنة بعد الموت، حيث إنه دائماً ما يكون القهر على الأرض في مقابل الجنة في السماء ولا أمل بالسعادة في الحياة أبداً.
كما ذكرت نحن أمام مسرحيتين وليست واحدة، كليهما تنتميان إلى نفس الحقبة التاريخية مع فارق بضع سنوات بين الأولى والثانية التي هي عبارة عن مسرحية داخل مسرحية. لدينا المسرحية الأولى والتي تدور أحداثها عام 1808 بعدما انتهت الثورة الفرنسية، ثم ننتقل إلى اللحظة الحالية في مصح شارنتون التاريخي الذي يقع على مسافة قليلة من باريس وضم كثير من الثوريين بجانب المرضى النفسيين العاديين، حيث يجتمعون لتقديم المسرحية الأخرى، تلك التي تقع أحداثها داخل المسرحية الأولى والتي تروي من ناحيتها ما حدث قبل سنوات حين جرى اغتيال مارا من قبل المواطنة شارلوت التي فاجأته بسكينها في الحمام وقضت عليه. أما من كتب هذه المسرحية مشتغلاً على الوقائع التاريخية ولكن على هواه، فهو المركيز دو ساد النزيل بدوره في المصح الخاص بذوي العاهات العقلية، والذي كان قد تمكن من إقناع مدير المصح بتقديم العمل من تمثيل “المجانين” أنفسهم وأمام جمهور منهم. ومن هنا نجدنا نشاهد المسرحية الداخلية تُقدَّم برعاية المدير الحاضر مع زوجته وابنته. غير أن ما نشهده في حقيقة الأمر أكثر من الحدث نفسه إنما هو سجال عميق لا جنون فيه ولا أي شيء من هذا القبيل حول الثورة ومشروعيتها، ويدور بشكل رئيسي حول سؤال صعب: ما هي الثورة، أهي تبديل في الواقع الاجتماعي أم هي اشتغال المرء على ذاته كي يغيّرها؟
وهكذا تتوالى الأحداث في ازدواجيتها الزمانية أمامنا والتي تخص الثورة الفرنسية ولكنها تُجسد إسقاطاً شديد الوضوح على الواقع المصري الخاص بثورة 25 يناير وتداعياتها على النسيج الاجتماعي المصري والأزمات السياسية والفكرية التي واجهناها، وتتوالى الأحداث بين حنين إليها وقسوة في الحكم عليها، ونجدنا أمام نظرتين للثورة تهيمنان على السياق ككل: نظرة المركيز دوساد الفردية العدمية، ونظرة مارا الذي نتابعه قبل اغتياله، ولكن كذلك في حوارات عميقة مفترضة بينه وبين ساد، وكذلك من خلال مدير المصح الذي يرتدي زياً عسكرياً والذي يتولى السلطة الحاكمة اليوم تحت زعامة نابوليون الذي يرى كثير من المجانين الممثلين، أنه هو من قضى على الثورة!
نجح أشرف علي مع باقي عناصر المسرحية من إضاءة وتمثيل وديكور أن يقدموا حالة فنية شديدة الدقة، استطاعت أن تعبر بقسوة عن المرارة والعنف الداخلي الذي يحمله كثيرون بخصوص أحداث العشر السنوات الماضية في مصر، وإن كانت الموسيقى تميل بشكل كبير إلى موسيقى الكرتون الشهير كابتن ماجد وغير ومن موسيقات أعمال سبيس تون الشهير في السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة.