أخبارثقافة وفنموجز الانباء

“تشارلي تشابلن” نقلة فكرية وفنية للمسرح تفتح شهية الجمهور طلباً للمزيد  

كتبت – أمنية طلعت

بغض النظر عن ملابسات إنتاج مسرحية “تشارلي تشابلن” الموسيقية والتي أُستخدمت كعرض الافتتاح في الدورة 30 من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ودون العودة إلى التساؤلات التي أُثيرت بين بعض المهتمين بالشأن المسرحي العربي، حيال المسرحية وكونها تُعبر بالفعل عن هوية المهرجان التجريبية، نستطيع أن نقول أن مسرحية “تشالي تشابلن” نقلة كبيرة في عالم المسرح العربي وليس المصري فقط، لأن المملكة العربية السعودية لها يد كبيرة في خروج هذا العمل إلى النور.

كان حُلم تقديم عمل مسرحي غنائي رصين يداعب خيال  المسرحيين بعد مرور عقود طويلة من الدوران في فراغ الرقابة على المصنفات الفنية وأزمات المنتجين وروتين أروقة وزارة الثقافة والحروب الباردة الصغيرة بين لوبيهات المسرح المصري المتنازعة، ودائما ما كان الوقت يمر دون الوصول إلى نتيجة يمكن الإشارة إليها، ولكن مع تشارلي تشابلن دخل عنصر هام حسم الصراع والتوهان في أروقة جحا وقدم الإنتاج الذي ساهم في خروج هذا العمل الممتاز وانطلاقه أولاً في المملكة العربية السعودية ومن ثم في مصر.

جاء تقديم عمل مسرحي موسيقي غنائي عن واحد من أهم الشخصيات الفنية العالمية، والذي لا يمكن وصفه بالإنجليزي أو الأمريكي، لأنه هو نفسه كان يرفض التصنيف ويرى إنه إنسان عالمي، فكرة ذكية ومهمة في عصرنا الحالي، حيث نعيش صراع الهويات القلقة والتي تكاد تصل إلى النظرة الشوفينية أو العنصرية بين الشعوب وبعضها وبين الشعوب العربية نفسها، فجاءت الإجابة عن عالمية الإنسان من خلال تعجسيد شخصية تشارلي تشابلن عن خشبة المسرح، ولكن من خلال رؤية حداثية تجمع الكثير من الأحلام الفنية، فهذه المسرحية يمكن وصفها بأنها عمل توثيقي أو مسرحية وثائقية لأنها لا تكتفي بمجرد قص حياة تشارلي تشابلن منذ الطفولة وحتى وفاته، ولكنها تُجسد أهم المحطات التي شكلت هويته المعرفية وانتمائه الفكري والسياسي والفني.

بدأت المسرحية كفكرة في عقل الفنان الشامل محمد فهيم والمخرج الشاب ذو الرؤية الحديثة أحمد البوهي، الذي قام بدوره الهام جداً في رسم الملامح الرئيسية للعمل، فيمكننا القول بثقة أن مسرحية تشارلي تشابلن هي نحت أصابع البوهي، الذي كتب سيناريو المسرحية بالكامل وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه “بناء الأساس أو العمود الفقري للعمل” وكان عليه أن يشرع بعد ذلك في كسوة هذا العمود الفقري باللحم وهو ما دعاه للذهاب إلى مدحت العدل الذي قام بوضع الحوار في المسرحية إضافة إلى كلمات الأغاني، وربما كان هذا هو أضعف عنصر في العمل حيث لم يخرج الحوار بنفس قوة السيناريو والإخراج، ولكنه لم يلعب دوراً أثر بشكل سلبي على وصول الرسالة إلى المشاهد، كما لم يؤثر كذلك على الإطار أو القالب المبهر الذي خرجت فيه النتيجة النهائية للمسرحية، حيث إن هذه النوعية من الأعمال الفنية لا تقوم على الحوار في الأساس ولكن تعتمد على الصورة أو المشهدية الحركية إن جاز لنا التعبير، فنحن في الأساس نتعامل مع ملك السينما الصامتة، هذا الرجل الذي نجح في تمرير العديد من الأفكار الثورية بدون أن ينطق حرفاً واحداً، ومعتمداُ بالكامل على إيماءات جسده، فمن يستطيع نسيان الرسالة القوية لفيلمه “الأزمنة الحديثة” التي ينتقد فيها قسوة الرأسمالية واعتمادها على الآلة وتحويلها الإنسان نفسه إلى آلة، وفيلم “أضواء المدينة” الذي يلقي الضوء على الفروق الطبقية الرهيبة بين الأغنياء والفقراء، وفيلم “المهاجر” الذي ينتقد فيه تعامل السلطات الأمريكية مع الأوروبين الفارين من ويلات الحرب العالمية الثانية لاجئين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الأعمال ذاتها التي تسببت في توجيه أصابع الاتهام إلى تشارلي مدعية انتمائه إلى الفكر الشيوعي والذي تعتبره أمريكا فكراً معادياً لدولتها الرأسمالية ويعمل على هدمها.

استطاع البوهي أن يعبر برؤيته الزمان والمكان وينقل لنا بذكاء شديد واحترافية دقيقة عالم تشارلي تشابلن، بالقفز على أهم المحطات في حياته ليقدم لنا رؤية شاملة دون إسهاب في تفاصيل وحوارات مطولة مملة، لحياة هذا الرجل كواحد من عباقرة القرن العشرين الذين شكلوا هوية فنية رصينة وراسخة استطاع من جاء بعده ليبني عليها، فلطالما كانت أعمال شابلن الفنية مصدر إلهام للعديد من أعمال السينما والمسرح في العالم بأكمله ومازال حتى الآن مصدر إلهام للجميع.

المسرحية تتنقل بين طفولة تشارلي وتأثير الفقر والجوع عليه وأخيه وأمه التي اتهموها بالجنون لأنها كانت تحلم أن تكون فنانة كبيرة، لكن صخرة الواقع المجتمعي وهجر زوجها لها والأحداث السياسية العالمية الدامية قضوا عليها، فحملها تشارلي في صدره وهو يعبر القارات ليقول كلمته من أجل الإنسانية، فنحن هنا أمام سيناريو لا يرتكز على تراتبية الأحداث بقدر ما يرتكز على دور الأحداث في تجسيد الفكرة الرئيسية، وهي في رأيي أن تشارلي كما وصف نفسه “إنسان عالمي” لا ينتمي إلى وطن محدد أو هوية عقائدية أو عرقية محددة، فكان التقافز بين الأحداث وتجسيد بعضها في شكل حُلم من خلال الكُوة التي تُشبه فتحة دخول المفتاح بالباب، وتتواجد في منتصف الفضاء المسرحي لتفتح وتغلق مع مشاهد الحُلم أو الأطياف أو الانتقال من مرحلة لأخرى .. إلخ.

لعب محمد فهيم دور تشارلي تشابلن بعبقرية شديدة، فهو لم يركز مثلما فعل الجميع من قبله على طريقة سير تشابلن الشهيرة وحركاته الكوميدية، وإن كان قام بها ولكن في سياقها، حيث أعيد رسم بعض المشاهد من أفلامه أثناء أحداث المسرحية، وذلك في سياق الأحداث التي جرت داخل البلاتوه أثناء تصويره لأفلامه، لكنه عدا ذلك يخرج في شكل طبيعي لشخص عاش في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك قدم فهيم ببراعة تعبير حركي معاصر أظهر قدراته على الرقص الحديث، إضافة إلى ليونته ومرونته العضلية في الحركة والقفز من مكان لآخر، وهذا يُضاف إلى إمكانيات فهيم الغنائية والتمثيلية التي نعرفها.

لعب الفنان وأستاذ التمثيل والإخراج أيمن الشيوي أيضاً دور إدجار هوفر مؤسس ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI  ببراعة تُحسب له تماماً، فلقد ظهر بشكل جديد وأداء عالمي يؤكد على قدراته الفنية الهائلة والتي لم يتم الاستفادة منها بالكامل، فالشيوي منذ بداية انطلاقه في عالم الفن وهو يركز على اختيار أدواره لأنه مؤمن بدور الفن في تغيير الشعوب، وإن كان في الفترة السابقة ظهر في عدد من الأعمال التي ألقت عليه الضوء بشكل كبير مثل دور نابليون بونابرت في مسلسل “سره الباتع”، والآن في مسرحية تشارلي تشابلن، حيث استطاع النجاح في الأداء الغنائي وكذلك نجح في الأداء الحركي مع الرقصات في هذا العمل الموسيقي.

أعادت المسرحية أيضاً اكتشاف كل من الفنان عادل إسماعيل في دور سيدني تشابلن وداليا الجندي في الصحفية هيدا هوبر التي تعاونت مع المباحث الفيدرالية للقضاء على تشابلن وطرده من الولايات المتحدة الأمريكية.

برع إيهاب عبد الواحد في تقديم موسيقى شيقة تعبر عن الحالة الفنية لطبيعة هذه المسرحية الموسيقية في الأساس، ورغم أننا نتعامل مع مسرحية موسيقية لأول مرة في العالم العربي إلا إنه كان على قدر هذه المسؤولية الكبيرة واستطاع أن يبكينا ويضحكنا ويملأ صدورنا بالحماسة مع كل حدث في هذا العمل الضخم.

خرجت الإضاء التي صممها الأمريكي جون هوي مناسبة لطبيعة العمل، حيث إن المخرج اعتمد على رسم المشاهد بشكل سينمائي وهو ما اعتمد عليه هوي الذي قدم إ&ضاءة تحاكي إضاءة السينما أو تترك نفس أثرها في نفس المشاهد الذي شعر بأنه يعيش الأحداث مع الممثلين على الخشبة، وكذلك لعب الإكسسوار والملابس لريم العدل ومحمد سعد في نقل أجواء الزمن الذي درات فيه أحداث العمل، كما اتسمت بالذكاء الشديد لتناسب الحركة السريعة للمشاهد وتنقل الممثلين من مشهد لآخر، ما لا يوفر الوقت المناسب لتغيير الملابس، لذلك جاءت قطع الملابس ذكية بحيث تعطي أكثر من شكل في أسرع وقت للتنقل السريع بين المشاهد.

يجب أن نتوقف طويلاً عند الديكور الذي برع في تقديمه مصمم الديكور الكبير حازم شبل الذي نجح في تقديم ديكور موحياً بالسينما، فنجح في إعطاء المشاهد روح السينما على خشبة المسرح، إضافة إلى تقسيمة الفضاء المسرحي بحيث يستطيع استخدام جانبي المسرح بطريقة تجعلهما مع الإضاءة وكأنهما في المنتصف، وكذلك شغل مساحة المنتصف وعمق المسرح بذكاء يمنح القدرة على تحريك بعض القطع المسرحية وإبراز غيرها مع تقنية الإضاءة والإظلام لنتحرك جميعاً معه بسلاسة شديدة على الخشبة.

إن مسرحية “تشارلي تشابلن” تعطي درساً مهماً للإنتاج المسرحي الخاص، بإمكانية الجمع بين الجدية والعناصر الجاذبة للجمهور بدون ابتذال من أجل بيع تذاكر الشباك.

Eslam kamal

موقع حرف 24 الإلكتروني الإخباري يهتم بالشأن المصري والعربي يركز على القضايا الاجتماعية ويلتزم المهنية
زر الذهاب إلى الأعلى