في ذكرى وفاة الرافعي..كتبه المهند محمود.. رثاء محب بليغ من أصدقائي على الفيس بوك

المهند محمود، هو الابن الثاني للدكتور محمود دسوقي، فقيه اللغة العربية و أستاذ الأدب و النقد بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، و المعار إلى المملكة العربية السعودية منذ عقد من الزمان، يعلم فيه طلابه اصول اللغة و الشعر و الأدب و النقد، من منطلق شرعي للحفاظ على ديوان العرب و مادتهم و حاضنة ألسنتهم..
المهند محمود هو المهندس الثاني أيضاً من أولاد الدكتور محمود الدسوقي، حيث سبقه إلى نفس الكلية و تخرج فيها أخوه الأكبر البكر المهندس البراء محمود، و كلاهما مع بقية أولاده أغصان من دوحة وارفة الظلال مورقة أبدا إن شاء الله تعالى، حفظهم الله جميعاً..
و قد راقني منشوره في رثاء فارس اللغة العربية و أحد سدنتها مصطفى صادق الرافعي، و سطر مشاعره تجاهه في بلاغة قلما تخرج أو تصدر عن طالب كانت شعبته الدراسية في الثانوية العامة هي الشعبة العلمية، و لكن لا غرو، فهذا الشبل من ذاك الأسد، و من شابه أباه فما ظلم أمه..
فإلى نص المنشور:
ثمان و ثمانونَ عاماً يا مولاى، ورسائل أحزانِكَ نقرأها فى كلِّ مرةٍ كأنها الأولى، نزدادُ حُسناً وحزنًا كلما نطالعها، أوراقُكَ الموردة تنبتُ لنا عنباً وقضبا، وفاكهةً وشُربا بين كُلِّ المحبين..
وحى قلمكَ لكأنَهُ شئٌ من التنزيل، فكما يرسلُﷲُ رسلَهُ يرسلُ رسائلَهُ، وإنى أجزمُ ثقةً بخالقِ السماوات والأراضين أنك رسالة من رسائِلِهِ فى ظلامِ الأرض نلتمسُ منك قبساً من النور الربانى!
أحسب أن الرَّافعي كالزهرة الأدبية الخالصة، كما كان الجاحظ من قبله زهرة تراث الأقدمين، فلم يبلغ كاتبٌ عاصره في قلبي كما بلغ هو، ولم أجد في غيره ما وجدت في هذا الرجل؛ وكلٌّ له حرفٌ جميلٌ خاصٌ به، وهم أدباؤنا جميعًا الذين نفخر بهم في كل زمانٍ ومكانٍ. ولا أعرف هل أحب فيه قلمه الجميل، أم حبي لتمسكه بآداب الإسلام وشريعته أكبر؟ فلم تخل حروفه ولم تتجرد يومًا من عباءة الدين ليُرضي بها أحدًا من الخلق، بل كان قلمه مدادًا لعقيدته، ومسطرًا لما تبناه من الفضائل والشمائل القرآنية والسنة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين ووقائعهم..
لقد أتحفنا بيانًا، وأغدق علينا لفظًا، وأبرع في صياغة التراكيب والجماليَّات حتى كاد يصورها لنا حيةً تسعى، وما أن ظفرت بإحدى تحفه فستبدأ معها رحلةً غنيةً في عالم الأدب والقصص والبلاغة، ممَّا خطَّه قلمه في جنة العربية وما تحويه من كنوزٍ ودررٍ. إن الرَّافعي أديبٌ فصيحٌ، ومحبُّ شهم، وريحٌ تهبُّ من الماضي العتيق، فتأتي محملةً بعظائم التراث في قالبٍ سلسٍ لطيف، لا يشوبه تعقيدٌ ولا تشويه، إنما حرفٌ سهلٌ ممتنع، ولفظٌ حلوٌ بليغٌ..
وأنا أرى -كما ذكر العريان في تصديره- أن خير بداية في جنة الرَّافعيِّ لهو “وحي القلم”، آخر أعماله وأكثرها شهرةً وإتقانًا وجمالًا وتفصيلًا، لم ينته منه كليةً، فاختاره اللَّه قبل أن يتمَّه، وجُمعت باقي مادته وموضوعاته المتفرقة بعد وفاته، وفيه خير ما كتب من خلاصة قلمه وفكره وتجاربه..
وبعد الوحي، فلتنتهل ممَّا تشاء من باقي أعماله التي يصعب التفضيل بينها من فرطِ حسنها وجمال ما فيها، وما أن تفرغ منها -ولا أظنك ستفعل- فاذهب في رحلتك الأدبية أينما تشاء، فانتهل من تراث المحدثين ومن تلاهم، ولا تأخذ الركيك التافه وتدع الجيد، فإن فعلت فإنك تُشوَّه جمال لغتك وتفسدها شرَّ إفساد..
الكتاب الأقرب لقلبي، هو ” رسائل الأحزان ” أجدُ في ثنَاياه ما يُخفيه قلبي، هي خمس عشرة رسالة، كتبها لا بعقله ولكن بقلبه وحواسّه.. لذلك هي الأقرب لقلبي مهما قرأت!!
هام شيخُنا بالقرآن حبًّا، وبآداب الإسلام ولعًا، كان خادمًا للعقيدة الإسلامية، خادمًا للغة العربية التي دافع عنها بعزمٍ لا يلين، وبقوةٍ لا تُقهر، و بإيمانٍ راسخٍ رسوخ الجبال..
رحمه اللّٰه وأحسن مثواه، وأصدق عمله كما أصدق اسمه، ورفعه في عليين كما رفعه في قلوب عباده، فقد رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 10 مايو عام 1937م