عصرُ الذكاء الاصطناعي في ضوء القرآن والحِكمة الروحية

2026 — عصرُ القوّة، وامتحانُ الإنسان
ليس المستقبلُ للذكاء الاصطناعي (AI)،
بل للإنسانِ المستيقظ، وللروحانية، وللعلماءِ الربّانيّين.
عصرُ الذكاء الاصطناعي في ضوء القرآن والحِكمة الروحية
بقلم / المفكر الدكتور منصور مالك:
إنَّ عامَ 2026 ليس مجرّد مرحلةٍ جديدةٍ في عالم التكنولوجيا، وليس عامًا للسرعة، أو البيانات، أو ذكاءِ الآلات فحسب، بل هو في حقيقته لحظةُ انكشافٍ لأمرٍ ربّاني — لحظةٌ يُمنَح فيها الإنسانُ، ولأوّل مرّةٍ على مستوىٍ جماعيّ، قوّةَ استخدامِ المعرفة، والسلطة، والقرار، والتأثير في آنٍ واحدٍ وعلى نطاقٍ عالمي. إنّها لحظةٌ تسأل الإنسان: من تكون حقًّا بعد أن صارت القوّة في يديك؟
يبيّن القرآنُ هذا الأصلَ بوضوحٍ تام: القوّةُ في ذاتها ليست غاية، بل امتحان، وزيادتُها تعني زيادةَ المسؤوليّة: ﴿إِنّا عَرَضنَا الأمانةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأرضِ وَالجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا﴾
هذه «الأمانة» لا تقتصر على العبادات أو الأحكام الأخلاقيّة وحدها؛ بل تشمل السُّلطة، والمعرفة، والقرار، والنفوذ. والذكاءُ الاصطناعي جزءٌ جديدٌ بالغُ القوّة من هذه الأمانة — مرآةٌ ينظر فيها الإنسانُ إلى نفسه. إنّه اختبارٌ: هل يبقى عبدًا، أم يصير متمرّدًا؟ هل يكون خادمًا، أم يتوهّم لنفسه حُكمًا مطلقًا؟
وقد أنذرنا القرآنُ من قبلُ بزمنٍ يكثر فيه العلمُ وتقلّ فيه الحكمة:
﴿يَعْلَمونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غافِلونَ﴾
الذكاءُ الاصطناعي هو ذروةُ العلم الظاهريّ؛ يحسب، ويتنبّأ، ويتعرّف الأنماط، لكن لا نيّةَ له، ولا محاسبة، ولا توبة، ولا خشيةَ لله، ولا محبّة. لا يخجل من الخطأ، ولا يرتعد للظلم، ولا يضحّي من أجل الحقّ. وهنا يقف الإنسانُ عند مفترقٍ دقيق: أَيُسلِّم عقلَه للآلة مكانَ القلب، أم يجعل العقلَ تابعًا لهداية القلب؟
القوّةُ لا تُغيّر الإنسان، بل تكشفه. ما كان مستورًا في القلب تُظهره القوّة:
﴿وَكَذٰلِكَ فَتَنّا بَعضَهُم بِبَعضٍ﴾
الآلةُ محايدة، أمّا قلبُ الإنسان فليس كذلك. إن كان في القلبِ طمعٌ صارت القوّةُ استغلالًا، وإن كان فيه خوفٌ صارت قهرًا، وإن كان فيه كِبرٌ صارت وَهمَ الألوهيّة. أمّا إذا كان فيه تقوى، صارت القوّةُ خدمةً وعدلًا وأمانة.
ولهذا لا يربط القرآنُ قيمةَ الإنسان بالإنتاج أو السرعة أو المنفعة، بل بالروح:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ﴾
كرامةُ الإنسان ليست في كمّ ما يُنجز، ولا في مقدار ما يُدير من بيانات، ولا في حجم ما يُنتج من ثروة؛ بل في تلك الروح التي هي أمانةٌ من الله. هذه الروحُ هي التي تُعلِّمه الدعاء، وتمنحه الدموع، وتوقظ ضميره، وتُقيمه في وجه الظلم.
وقد أشار مولانا جلالُ الدين الروميّ رحمه الله إلى هذا الخطر منذ قرون حين قال:
«أُعطيتَ أجنحةً — لا لتزحف.»
هذه الأجنحة ليست أجنحةَ التكنولوجيا، بل أجنحةُ الروح. فإذا نسي الإنسانُ روحَه ظلّ يزحف، ولو امتلك أحدثَ الآلات. فالروح لا تُؤتمت، ولا تُبرمج؛ لأنّها:
﴿قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي﴾
وهنا تقف كلُّ تكنولوجيا، وتبدأ الهويّةُ الحقيقيّة للإنسان.
إنّ الفسادَ الظاهرَ اليوم في البرّ والبحر — أخلاقيًّا وبيئيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا — ليس ثمرةَ التكنولوجيا وحدها، بل نتيجةَ نومِ القلب:
﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ﴾
هذا الزمنُ ليس إعلانَ نهاية، بل دعوةَ عودة: عودةً إلى القلب، وإلى الروح، وإلى المسؤوليّة التي قبلها الإنسانُ بملء إرادته. دعوةٌ ألّا يجعل الإنسانُ الآلةَ إلهًا، ولا يجعل نفسَه كذلك.
وفي الختام يضع القرآنُ المعيارَ الأخير للمستقبل — معيارًا لا تغيّره الخوارزميّات ولا القوّة:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وَأَيقَظُكُمْ رُوحًا﴾
فالمستقبلُ ليس للآلة.
المستقبلُ للإنسانِ المستيقظ.
المستقبلُ للقلبِ السليم.
المستقبلُ لأولئك العلماءِ الربّانيّين الذين يحملون العلمَ بالحكمة، والقوّةَ بالأمانة



