ورد سؤال لدار الإفتاء المصرية من رجل يقول: “يقوم بعض الناس بالاستيلاء على خدمة “الأطباق الفضائية المشفرة” عن طريق التوصيل بإشارة هذه الأطباق، ويُبرِّرون بأَنَّ ذلك لا يُعَدُّ من السرقة، فهل كلامهم هذا صحيح شرعًا؟”.
ويجيب مفتى الجمهورية الدكتور شوقي إبراهيم علام بأن الاحتيال بالاستيلاء على خدمة الأطباق الخاصة بالقنوات الفضائية المشفَّرة التي لا يسمح أصحابها لغيرهم الدخول عليها إلا بعد إذنهم- يُعَدُّ من قبيل السرقة؛ وهو عملٌ محرّمٌ شرعًا؛ لما فيه من الاعتداء على حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل.
والأطباق الفضائية المشفَّرة: هي عبارة عن أجسام معدنية على شكل طبق، مصمَّمة لاستقبال الإرسال والبث المباشر والمعلومات عن طريق الموجات من الأقمار الصناعية بواسطة قمر صناعي للبث المباشر في مدار ثابت بالنسبة للأرض، ونقلها إلى التلفاز والعكس، فيقوم بتوفير مجموعة واسعة من القنوات والخدمات، وهو ما يعرف “بالدِّش”.
وخدمة توصيل “الأطباق الفضائية المشفرة” تُعَدُّ مِن المنافع المتقوِّمة؛ أي: التي لها قيمة في عُرْف الناس، والفقهاء مختلفون في كون مثل هذه المنافع أموالًا على قولين:
القول الأول: وهو لجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، حيث يرون أَنَّ المنافع أموال؛ قال الإمام ابن عبد البر في “الاستذكار” (5/ 87، ط. دار الكتب العلمية): [والمعروف من كلام العرب أن كل ما تُمُوِّلَ وتُمُلِّكَ فهو مال] اهـ.
وقال العَلَّامة المازري في “شرح التلقين” (3/ 176، ط. دار الغرب الإسلامي): [ومنافع الأعيان مما يصحّ العقد عليها بعوض، كما للإنسان أن يؤاجر عبده، ويُكْرِي داره، فلولا أنها مما يُتَمَوَّل لم يصح عقدُ الإجارة فيها] اهـ.
القول الثاني: وهو للحنفية، حيث يرون أنَّ المنافع ليست أموالًا، وإنما تَتَقَوَّم بالعقد، أو في باب الإجارة للضرورة.
وعلى هذا: فإذا أجرينا الخلاف في كون المنافع أموالًا أم لا، واخترنا قول الجمهور في كونها أموالًا، فإنَّ الخدمة المقدَّمة من خلال توصيل خدمة “الأطباق الفضائية المشفرة” تكون من قبيل الأموال، وإذا اخترنا قول الحنفية في كون المنافع ليست أموالًا فإن الخدمة المقدَّمة من خلال توصيل خدمة “الأطباق الفضائية المشفرة” من قبيل المِلك والحق.
ومن المقرر شرعًا أنَّ المال والحق والملك مما لا يجوز الاعتداء عليه؛ ولذلك حرَّم الله تعالى السرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل، وأوجب عقوبات دينية ودنيوية لمن يعتدي على أموال الآخرين وحقوقهم، فيجري فيها -أي: الأطباق الفضائية المشفَّرة- ما يجري في الملك الذي هو حقٌّ خالصٌ يختص به صاحبه مِن جواز انتفاع صاحبها بها على أي وجه مِن الوجوه المشروعة، وجواز معاوضتها بالمال إذا انتفى التدليس والغرر، وتحريم انتفاع الغير بها بغير إذن أصحابها، وحرمة الاعتداء عليها بإتلاف عينها أو منفعتها أو تزويرها أو انتحالها زورًا وكذبًا.
فالإسلام الذي شرع القطع في السرقة من أجل حماية المجتمع من السرقة المادية، لا يبيح السرقة من أي نوع، أو يسكت عنها، فأيُّ سرقة للحقوق المعنوية محرمة شرعًا، ولكن لم يُعَيَّن لها عقوبة واضحة كما في سرقة النقود، وربما كانت عقوبتها التعزير.
والتعدّي على الحقوق أكلٌ لأموال الناس بالباطل، والإسلام حرَّم أكلَ أموال الناس بالباطل وكلَّ المكاسب غير الشرعية؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].
وعَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رواه البيهقي في “سننه” (6/ 166)، والدار قطني في “سننه” (3/ 26)، وأبي يعلي في “مسنده” (2/ 229).
وكون هذه الخدمة –أي: توصيل “الأطباق الفضائية”- مُشَفَّرة؛ بحيث لا يستطيع أحد الدخول عليها إلَّا بعد فك التشفير، فإنَّ صاحبها بقيامه بهذا التشفير لا يُبِيحُ لغيره الدخولَ عليها إلا بعد إذنه، ويُعدُّ الدخول عليها بغير إذن تعدِّيًا وأكلًا لأموال الناس بالباطل، وقد نُهينا عنه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرْمَةِ يَومِكُم هَذَا فِي شَهْرِكُم هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» متفق عليه.
هذا كلّه فيما إذا قام صاحب هذه الخدمة بالتشفير؛ أَمَّا إذا كانت هذه الخدمة غير مُشفَّرة فإن استعمال الشخص لها حينئذ جائزٌ؛ وذلك لأن عدم تشفيرها من قبيل صاحبها أمارةٌ عُرْفًا على إذنه في الاستعمال؛ والإذن العرفي في الإباحة أو التصرف كالإذن اللفظي؛ تنزيلًا لدلالة العادة منزلة صريح القول، وقد أورد هذه القاعدة جمع من الفقهاء والأصوليين كالعز بن عبدالسلام في “قواعده” (2/ 126، ط. مكتبة الكليات الأزهرية)، وابن القيم في “إعلام الموقعين” (2/ 297، ط. دار الكتب العلمية)، وابن قدامة في “المغني” (4/ 350، 8/ 425، ط. مكتبة القاهرة)، وفرَّعوا عليها جواز الاستناد إلى جدارِ الغير والاستظلال به، والاستمداد من محبرته؛ يقول الشيخ ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 298، ط. دار الكتب العلمية): [ومنها: الاستناد إلى جداره والاستظلال به، ومنها: الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على مَن استأذنه في ذلك] اهـ.
وذلك مشروطٌ بعدم الإضرارِ بصاحب الخدمة؛ لأنَّ الإباحة هنا ضمنيةٌ لا صريحةٌ، وهي على خلاف الأصل، فلا يُتوسَّع فيها، ولا يُتَصَرَّف فيها تَصرّف المالك في ملكه.
وعلى ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنَّه لا يجوز الاحتيال بالاستيلاء على خدمة “الأطباق الفضائية المشفرة” عن طريق التوصيل بإشارة هذه الأطباق، ويُعَدُّ ذلك –ما لم يأذن صاحب الخدمة- من أكل أموال الناس بالباطل وتَعَدِّيًا على ملك الغير.